Featured Video

نهاية مقولة الصورة لا تكذب أبداً




نقلت لكم مقالاً مهماً
للكاتب : طلعت رميح

نهاية مقولة "الصورة لا تكذب أبداً"!




في الإعلام، سادت وماتزال تسود، مقولة أن الصورة لا تكذب أبداً، وهكذا جرى استخدام الصورة في وسائل الإعلام، كوسيلة من وسائل الإثبات التي لا تقبل التشكيك. كان اختراع آلات التصوير الفوتوغرافي بمثابة الدفعة القوية للصحافة، ثم جاء اختراع آلات التقاط الصور المتحركة دفعة أخرى أقوى، لأخطر أجهزة الإعلام ممثلة في السينما ثم التلفزيون، الذي تحول إلى "إمبراطور إعلامي" مسيطر، بفعل البث الفضائي الذي صار يخترق المنازل والعقول.
وكان الجوهر في هذا التطور، هو أن الصورة أصبحت هي المصدق الأول في الإعلام، وحينها سرت مقولة أن الصورة لا تكذب سريان الدم في العقول الإعلامية.
لكن الصورة، وفق هذا الاهتمام والتصديق صارت هي الأخطر كذباً أيضاً، بما يتطلب مراجعة المقولة وربما تغييرها أيضاً.
والصورة المتحركة في أصلها وأساسها، لا تقوم إلا على خداع البصر والعقل الإنساني، حيث الأفلام في أصلها الفني ليست إلا صوراً متواترة بسرعة أعلى من سرعة البصر والعقل على الملاحظة. كل لقطة فيلمية ليست إلا مجموعة متدفقة من الصور بسرعة لا يمكن للعين أن تميزها كصور مستقلة منفردة، لتراها حركة متواصلة وهي في التقاطها ليست إلا صورة كل منها ثابت عند حركة معينة.
لكن الأخطر، وما يدفع للمراجعة للمقولة ولفهم دور الصورة، هو أن الصورة المتحرك منها أصلاً، باتت تمد وسائلها في خداع العقل إلى ما هو أبعد من خداعها الفني الأصلي في تتابع اللقطات، حيث اللقطات الفيلمية التي تعرض باتت "تُصنع" لخداع العقل، ولتحول أموراً زائفة إلى حقائق مجسدة.


فبركة.. الصور
خلال الثورة الخومينية، دارت فرق التصوير التليفزيونى الأمريكية في مختلف أنحاء طهران تفتش عن مبتغاها فى المظاهرات الثائرة فلم تجده .كان القرار السياسيى الأمريكى هو إعطاء انطباع للجمهور الامريكى والغربى، بأن الثورة معادية للغرب وللولايات المتحدة خاصة، وكان مطلوبا من قلب هذه المظاهرات والأحداث دلائل مصورة ..فلم تجدها فرق التصوير. هنا لجأ أفراد طواقم التصوير إلى السفارة الأمريكية للحصول على أعلام أمريكية، قاموا بتوزيعها على الجماهير الغاضبة الثائرة ضد الشاه فى ساحة الشهداء تحديداً، التي أشعلت فيها النيران لتخرج صورة تقول: الثورة الخومينية تتوعد أمريكا.
وفى ذلك يكشف النقاب عن الحرية المزعومة والحيادية التي فلقوا بها رؤوس الناس عن الاعلام الأمريكي، إذ يظهر الإعلام الأمريكي خادما للسياسة الخارجية الأمريكية بل ويمارس التضليل على الشعب الامريكى نفسه.
و خلال العدوان على العراق، كنا على موعد مع نمط آخر من خداع الصورة. لقد كانت أجهزة الدعاية الامريكية تستهدف التعبئة الشاملة ضد شعب العراق وجيشه ودولته. ووقتها كان هناك قلق عالمى من تفجير آبار النفط، فاستغل الأمر وجرى تصوير طيور غارقة فى بحيرات التلوث فى جزيرة آلاسكا، وقالوا إنها صور ناتجة عن تخريب العراق لحقول النفط.
وفى ذلك نحن أمام نمط من الخداع والتضليل والكذب المخطط على الرأي العام في العالم أجمع، وهو ما كان سمة الإعلام الأمريكي كاملا في تلك الفترة.

وفى بداية العمليات البرية خلال العدوان الأخير على العراق عام 2003، كانت هناك دعاية حربية فجة مباشرة، باستخدام الصورة المفبركة أيضاً. جرى إلباس بعض المواطنين العاملين فى إحدى الدول العربية بلباس جنود عراقيين وجرى تصويرهم فى حالة استسلام للجنود الأمريكيين. كانوا يريدون تدمير الروح المعنوية للشعب والجيش العراقى في بداية المعركة.
وفى ذلك يظهر جانب من عمليات الخداع التى جرت فى إطار الحرب النفسية، ما يظهر كيف تلعب الصورة دور الشائعة، ويبقى هنا سؤال مهم: وهل خُدعت محطات التلفزة العربية التى بثت نفس تلك الصور وبنفس التعليقات التى وردت عن الوكالات الأمريكية؟
وفى المشهد الرابع نذكر بما شاهدناه جميعا فى أيام الفاجعة الأولى، حيث جرى ما جرى فى مسرح الفردوس لا فى ميدان الفردوس في قلب بغداد بعد دخول قوات الاحتلال الأمريكية هناك، حيث قام مخرج سينمائى أمريكي بإخراج العرض الأخير لساعات احتلال بغداد. وهنا رأينا أعمال لها دلالات، فالحركة التي رتبت وكأنها تقاطر من أطراف مختلفة والملابس التى ارتداها "الممثلون" كان مقصودا منها التمايز والتمثيل لكل أطياف العراق، والعلم الأمريكي الذي وضع على رأس التمثال كان موجها إلى الأمريكيين بالنصر على صدام الذي تركزت ضده الحملة الإعلامية، كما كانت تلك الحركة هى البديل لما جرى فى أم قصر من رفع العلم الأمريكى محل العراقي في وطنه.



الكلمة.. والخداع
وخداع الصورة يترافق لازماً مع خداع الكلمة. وفي العدوان على العراق كنا على موعد مع خداع الكلمة.. مع خداع الصورة، إذ لم تصدر تصريحات من بوش أو بلير أو كولن باول أو رامسفيلد أو غيرهم من الساسة منذ العدوان على العراق واحتلاله، إلا جاءت ضمن خطة الخداع والتضليل.
ليس الإعلام المفبرك عن طريق أجهزة الإعلام هو وحده الخاضع للخطط المحددة، بل جميع تصريحات المسئولين أيضا وهذا هو الفارق بين الإعلام الشمولي والإعلام الغربي "الحر".. الحر فى أن ينفذ ما يطلب منه، لكن بطريقته الخاصة الأشد خداعاً.
وقبل أن نذهب للرؤساء والساسة، فلنذكر أولاً بأن الصحفيين الذين اعتمدوا من المؤسسة العسكرية الأمريكية لتغطية العدوان على العراق كانوا ثلاثة آلاف صحفي مصاحبين لقوات الاحتلال الأمريكية (إضافة إلى 500 آخرين كانوا متواجدين فى مناطق قريبة).
وفى ذلك كانت الحقيقة هى أول الخسائر في الحرب والعدوان، حيث لا أحد من كل هؤلاء الصحفيين والإعلامين كان يكتب شيئا لا تجرى مراجعته والحذف منه من قبل الرقابة العسكرية، كلمة أو صورة.
كما يجب أن نذكر بدلالات تلك القصة التى تفوق دلالاتها طرافتها. القصة تروى أن صحفيا أمريكيا كان يسير فى مدينة نيويورك حيث شاهد رجلا شهما يصارع كلبا وينقذ طفلا مقدماً جسده هو على جسد الطفل حتى أنقذه. فاقترب الصحفي من الرجل الشهم وحياه وقال له إنه سينشر تلك القصة تحت عنوان نيويوركى شهم يصارع كلبا وينقذ طفلا، فأجابه الشهم، ولكنى لست من نيويورك فقال الصحفي إذن سأجعل العنوان: أمريكي شهم يصارع كلباً وينقذ طفلاً، فقال الشهم للصحفى ولكنى لست أمريكى فسأله عن بلده فأجابه أنه من بلد إسلامي، فكتب الصحفي القصة تحت عنوان "ارهابى يقتل كلبا ويضرب طفلا"!!

والآن إلى مشاهد "كذب" المسؤولين، المترافقة مع حالة خداع الصورة.
فى المشهد الأول رأينا جورج بوش وهو يتحدث عن الديموقراطية وحقوق الانسان وأسلحة الدمار الشامل. أو لنقل شاهدنا هذا الفيلم مئات المرات. ثم ظهر أن كل ما قيل لم يكن ذا صلة بالواقع ولا بالدوافع بل الأمور تجرى بالعكس على نحو مزور وأن الأهداف جرى إخفاؤها تحت هذا التضليل. إذن لم قال ما كان يقوله ليل نهار؟! هل كان يعرف عدم صدق ما كان يقول أم كان مجرد ببغاء يردد ما يطلب منه ترديده؟!.
وفى المشهد الثاني جلس كولن باول وربما وقف أيضا حين كان يستعرض صوراً، قال إنها من الأقمار الصناعية عن أسلحة الدمار الشامل في العراق وصار يتحدث أمام مجلس الأمن الدولي في عرض تليفزيوني على غرار أفلام هوليود، عن العربات التي صورت في العراق وهى جاهزة لإطلاق الأسلحة الكيماوية وعن المساحيق الكيماوية والحاملة لجراثيم إبادة بيولوجية في أنبوب أمسك به في يده.
كولن باول هذا الجنرال الكبير القاتل أيضا بمشاركته في العدوان السابق على العراق.. هل كان يعلم بكذب كل كلمة يقولها - حين كان يخدع العالم أجمع – أم كان مخدوعاً؟!.
وفى المشهد الثالث رأينا تونى بلير وهو يتحدث عن العراق والخطر الذى يمثله النظام فى العراق وأسلحة الدمار التي يمكن تحضيرها خلال 45 دقيقة. رأيناه يتعمد نبرات لغة الصدق وهو يقول هذا الكلام الفارغ فى مجلس اللوردات البريطاني.. وفى كل زيارته إلى كل الدول، وظهر فيما بعد أن ما قاله لم يكن سوى دراسة لها وضعها على الانترنت. هل كان بلير يعلم كذب ما يقول ولذا جرت المعركة بينه وبين البى بى سى، حيث انتحر من سرب للإعلام أن بلير وحكومته تكذب وأن لا وجود لأسلحة الدمار الشامل فى العرق، أم أن بلير كان يفعل ما يفعل وهو ضحية خطة لتمكين تأثير الصور التي كانت تنشر عن تلك العربات الجاهزة لإطلاق الأسلحة الكيماوية والبيولوجية.
السؤال المهم هو:
هل كان هؤلاء جميعاً يعرفون أنهم يكذبون وهل كانت الصور والمشاهد التى رأيناها مجرد أعمال عابرة أم كانت ضمن خطط الحرب والعدوان؟.
المشاهد التي أشرنا إليها، وتصريحات المسئولين، تجعلنا نطلب فسخ عقد الاتفاق بين المشاهد والتلفاز أو بين عين المشاهد.. وما تراه!
والسبب هو أن اتفاق التلفاز مع المشاهد هو قائم أصلا على عقد بقبول الخداع، إذ صورة التلفاز ليست إلا نقاط بالملايين تتحرك بسرعة لا تتمكن العين البشرية على ملاحظتها، فتخدع بصر المشاهد وتتحول إلى صورة، وكذا الصورة المشاهدة في السينما ليست إلا صوراً ثابتة تجري بسرعة أعلى من قدرة العين على ملاحظتها، والفكرة هنا هي أن التكنولوجيا أتاحت إمكانات هائلة للخداع، كما هي في المرحلة الأخيرة من خلال الفضائيات والانترنت، قد توسعت في مساحة من تصل إليهم تلك الأعمال المزيفة ومن تخدعهم أيضا، وأن البعد السياسي والحضاري في التعامل مع الإعلام هو القضية الأشد اختلافا والأشد إظهارا للمضمون الحضاري والسياسي المختلف بين الحضارات وبين الحكومات.
فاذا كان الإعلام الإسلامي يعتمد الصدق طريقا للإقناع ولا يقول إلا بالحق، فان الإعلام الغربي باعتباره جزءاً من المنظومة "الاستعمارية" التي تبرر للاعتداءات وتروج للأكاذيب، يتحول إلى حالة كذب مخطط مبرمج فى حالات الحروب، باعتبار أن الانتصار منها لا يتحقق إلا بهزيمة إرادة الخصم وتحطيم روحه المعنوية، حيث الحروب لا تتحق نتيجتها بكثرة أو قلة القتلى أو الضحايا وإنما أساسا بهزيمة إرادة الخصم. وفى ذلك فإن الإعلام هو الوسيلة الأساس في تحطيم إرادة الخصم وليس العمليات العسكرية.
لقد أصبح الاعلام اشد خطورة من الأعمال الحربية ذاتها. مسئول سابق في أوروبا الشرقية قبل انهيار الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو وصف التلفزيون فى تسلله إلى الكتلة الشرقية بأنه قد فعل ما لم يكن بوسع السلاح النووى أن يفعله، وأن أزرار التليفزيون فتحت نوافذ التغيير بأخطر مما لو جرت حروب ذهب فيها ملايين الضحايا .
لغة الصورة ربما باتت أخطر في الحروب وفي التأثير على الرأي العام من الكلمة التي باتت تستمد صدقيتها في الإعلام من الصورة. الصورة قد تكون هى فى ذاتها شائعة إذا جرت عملية فبركة لها كما شاهدنا فى المشاهد الأربعة الأولى، كما هي بتصويرها وتوجهها قد تكون أخطر من كل مقال أو كلام إذ هى محل تصديق أشد مع أنها ليست حقيقية، ولذا فإن إزالة كل الغشاوة عن الأعين تتطلب ضرورة أن نفسخ عقد الخداع، وأن نمرر كل ما نراه على العقل لا على العين فقط.


البث المباشر.. والخداع
وهنا يبدو السؤال المهم، هو: هل ينطبق ذلك على البث المباشر؟ وكيف لا يكون البث المباشر حقيقة؟ أو كيف يكون خداعاً؟! وهنا يبدو السؤال الشارح للسؤال السابق، هو، ماذا لو قصفت الصواريخ والطائرات خلال العدوان الأمريكي على العراق.. دون أن تصل أصواتها وترويعها إلى بقية بغداد أو الى بقية الشعب العراقى والشعوب العربية والإسلامية، هل يتحقق هدف القصف في إحداث الصدمة والترويع والخوف؟ وفى العدوان على الفلوجة البطلة وغيرها من المدن العراقية هل كان يمكن لتأثيرها أن يصل إلى المدن الأخرى – وبفظاعة - إلا وفق نمط البث المباشر؟ لقد كان ضروريا لقوات الاحتلال أن يجرى القصف على الهواء، حيث أن أول شرط في تحقيق الخداع والتضليل أهدافه هو توسيع رقعة السيطرة الإعلامية التي تمكن من توصيل رسالة الرعب.. والخوف.
أما الشرط الثاني، فهو وجود خطط إعلامية ومكاتب تدرس الأوضاع النفسية للمواطنين فى كل مرحلة وتعيد توجيهها.
وهنا يمكننا أن نسأل ونبحث، هل كان لجرائم أبو غريب أن تؤدى تأثيرها دون أن تنتشر أحداثها ووقائعها على نحو كبير؟ وهل كان التسريب من قبل الصحافة الأمريكية حول أبو غريب حالة من حالات الديموقراطية أم كان مقصودا منه توزيع رسالة خوف للجميع؟
وفى محاكمة الرئيس العراقى صدام حسين، هل كانت طريقة وصورة ومسرحية القبض عليه وإظهاره بما ظهر عليه والمحاكمات ثم الإعدام، مجرد عمليات عفو الخاطر أو أم أنها كانت جزءا من عمليات الخداع والتضليل بالصورة والصوت لتوصيل رسالة الخوف.
لقد جرى استخدام البث المباشر وفق محورين فى كل ما جرى فى العراق، أولهما كشف حقيقة ما يجرى من قبل البعض، وثانيهما توصيل رسالة الترويع والخوف للاخرين على أوسع نطاق وليكون الترويع أشد تاثيرا.
فى الخداع والتضليل باستخدام الصورة نحن أمام لعبة متعددة ..شرطها إخفاء الهدف الحقيقي وتقديم هدف مزيف. .شرطه هو الآخر أن يكون هدفا جاذبا وأن يكون أقرب إلى التصديق وبه حقيقة موضوعية واضحة لا تكذب؛ فيجرى تركيب الكذب على الحقيقة فيكون الخداع.
وفي ذلك لعل البث المباشر في مسرح الفردوس وإسقاط تمثال صدام، وغطاء وجهه بالعلم الأمريكي، أهم كاشف لخداع الصورة، حيث كان ما يجري كله مرتب.. لتحل الصورة المزيفة محل الصورة الحقيقية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More